يعود الوجود الإيطالي في ليبيا الى مراحل مبكرة من التاريخ حين عمر الرومان ساحلها مند النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد وحتى نهاية القرن السابع الميلادي. و في التاريخ الحديث أصبحت ليبيا أهم المستعمرات الإيطالية في الفترة مند بداية القرن العشرين وحتى منتصفه. وتواصلت العلاقات بين البلدين حتى زمن العقوبات الدولية التي ضربت على ليبيا في العقد الأخير من القرن الماضي، فكانت روما اهم بوبات عودة النظام السابق للحضيرة الدولية بمساعدة رئيس الوزراء الإيطالي السيد بيرلسكوني. وظلت شركة “إيني” الإيطالية طوال تلك الفترة، وحتى الان، المستثمر الأساسي في قطاع الطاقة الليبي. ولازالت إيطاليا ترى في ليبيا كمنطقة نفوذ لها في شمال افريقيا، فلا يفصلها عن ليبيا إلا عرض البحر المتوسط، وكما انها اكثر المستفيدن من ليبيا فهي أيضا اكثر الدول الاوربية تضررا من الحالة الليبية الراهنة.
تحرك باريس المنفرد بمعزل عن جارتها وخصمها ايطاليا، أدى الى تأجيج الصراع بينهما بخصوص الملف اليبي، وأثار هذا التحرك غضب إيطاليا التي تريد لنفسها أن تستحود على الملف أو ان تكون لاعبا محوريا فيه وبه، لذلك ابدأت انزعاجها الشديد ورفضها لمؤتمر باريس قبل ان ينعقد. وتصاعدت انتقادات المسؤولين في روما، التي تعتبر نفسها “عراب” الجهود الدبلوماسية في ليبيا، لهذا سيتضح ان حكومة روما لن تغفر لخصمها فرنسا، الذي احست انه استغل الظرف الانتخابي الإيطالي لضرب ضربته هذه، وبالتالي قررت رد الهجوم ضد باريس.
قبل انعقاد مؤتمر باريس بيوم واحد فقط، وصف السفير الإيطالي لدى طرابلس، جيوزبي بيروني، في تغريدة عبر “تويتر”، مؤتمر باريس بانه “انقسامات ومبادرات غير منظمة ستساهم في عودة قوارب الموت”. يقصد بذلك ان المبادرة الفرنسية المنفردة تشتيت للجهود الدولية التي تقودها هيئة الأمم المتحدة مجتمعة. واعتبر السفير الإيطالي، في مقابلة مع جريدة “لاماتينو” الإيطالية، أن “الهدف ليس زيادة الالتزامات” يقصد بذلك بنود مؤتمر باريس، بل “تنفيذ ما تم الالتزام عليه حول ليبيا”، في إشارة للاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات عام 2015. وأوضح أن خطة عمل المبعوث الأممي لدى ليبيا غسان سلامة هي الطريق الذي يجب أن يتبع، مضيفًا: “دستور، قانون انتخابي، أمن ومصالحة تأتي كمقدمة للانتخابات في أقرب وقت”.
وتقول إيطاليا عن مبادرة ماكرون “انه يسعى من خلال هذه المبادرة إلى القفز على جهود دول عديدة ومنظمات دولية تجاه الأزمة الليبية، وتحديدا المبادرة الأممية التي يعمل على تنفيدها غسان سلامة، التي جاءت مبادرته عقب إحاطة الأخير أمام مجلس الأمن، حيث نبه المجتمع الدولي ومجلس الامن فيها إلى ضرورة توحيد الخطاب والأفعال بين أعضاء المجلس، لتجنب إطالة أمد الأزمة اليبية.
يرى المسؤولون الإيطاليون أن فرنسا أهملت عمدا دور ايطاليا الإجابي والفعال في ليبيا، وذلك من خلال عدم إشركها في صياغة المبادرة، ويفسر هؤلاء المسؤولون سعي باريس محاولة لتكريس نفوذها في المنطقة، واحياء لمطامعها التاريخية في الجنوب الليبي الذي كان ضمن مستعمراتها في شمال إفريقيا من جهة، ومن جهة ثانية حماية لمصالحها من خطر تمدد الجماعات المسلحة الذي يشكل تهديدا لإقتصادها في منطقة الصحراء الكبرى التي تنشط فيها العديد من الشركات الفرنسية الكبرى بحثًا عن الذهب واليورانيوم والنفط.
السياسة الإيطالية في ليبيا، ترتكز حسب مسؤولين في روما، على ثلاثة مسارات، أهمها دعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج ومساعدة الفصائل الليبية في التوصل إلى توافق والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة. هذا الموقف، رغم المعارضة المعتبرة للتدخل الإيطالي في ليبيا، الا انه يلقى القبول من جل الليبين المهتمين بالشان السياسي، فجل الليبيون يتطلعون الى حكومة وحدة تلغي الاجسام الموازية في اركان الدولة وتنهى الانقسام، ويؤيدون ادنى حد للتوافق يسمح بقبول نتائج الانتخابات وعدم الالتفاف عليها كما حدث في العام 2014، كما يرغب الليبيون في توحيد الموقف الدولي وابعاد التدحل الإقليمي الذي يعمل على تكريس الانقسام والاصطفاف السياسي، ويسعوا الى دستور ينظم حياتهم السياسية، بغض النظر عن الدستور المقترح. لكن المعارضين للدستور، على الأقل في هذه المرحلة تمكنوا من احباط كل محاولات الاستفتاء عليه بطرق محتلفة.
لا شك ان رحلة الهيئة التأسيسة لمشروع الدستور كانت مليئة بالعقبات والمختنقات، وقد واجهتها الكثير من التحديات جعلتها عاجزة عن انها عملها والتوافق على مشروعها في مدتها المحددة، والمتاعب التي واجهت الهيئة لا تختلف عن المتاعب التي واجهت كل الاجسام السياسية في البلاد. فلم تكن في مأمن من التدخلات والاملات، الا انها استطاعت أخيرا ان تنتج مشروع صوت لصالحه اكثر من ثلثي الأعضاء المؤسسين، فقد صوت جميع الحاضرين البالغ عددهم 44 بإستثناء عضو واحد على المشروع وثم اعتماده ومخاطبة البرلمان لاصدار قانون الاستفتاء عليه.
تعودنا ان الأمور لا تسير على ما يجب ان تسير عليه في قاعة البرلمان، وبعد ضغوط واخد ورد قام البرلمان بتكليف اللجنة التشريعية بالبرلمان لصياغة قانون الاستفتاء، وجاء قانون الاستفتاء كما يراد له، مليء بالالغام التي تمنع صدوره. وتركزت الغامه في المادتين السادسة والثامنة تحديدا. هاتين المادتين تُشعِر المطلع عليها وكأن من وضعهما يسعى الى تعطيل الاستفتاء على الدستور او خلق أسباب عدم الموافقة عليه.
المادة السادسة من قانون الاستفتاء تقسم ليبيا الى ثلاث دوائر انتخابية، ويكون التصويت لصالح الدستور بواقع 50+ 1 عن كل دائرة، وثلتي المقترعين على مستوى الوطن. واذا لم يتحقق نصاب 50+ 1 في احد الدوائر الثالثة لا تقبل نتيجة الاستفتاء حتى وان تجاوزت الثلثين من المقترعين. والمادة الثامنة تنص على انتهاء عمل الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور إذا لم ينال مشروع الدستور “نعم” في الاستفتاء الشعبي، وتكلف لجنة تقوم بصياغة مشروع دستور جديد.
في هذه الحالة، سيعترض مشروع الدستور مشكلتين، المشكلة الأولى: ان هاتين المادتين تحتاجان الى تعديل دستوري، في حين تضمنت المادة ثلاثون من الإعلان الدستوري المؤقت أنه في حال عدم الموافقة على الدستور في الاستفتاء يعاد مشروع الدستور إلى الهيئة التأسيسية لإعادة صياغته مجددا. والمشكلة الأخرى تكمن في عدد الدوائر الانتخابية، فالمادة السادسة وضعت لارضاء الفيدرليين، وقسمت البلاد الى ثلاث دوائر انتخابية، في حين جعل الدستور المؤقت ليبيا دائرة واحدة فقط.
التعديل الدستوري يحتاج الى اغلبية موصوفة للتصويت عليه في البرلمان، وقد عودنا النواب بامكانياتهم في تعطيل أي قانون يحتاج الى اغلبية موصوفة، وذلك بالامتناع عن حضور الجلسات حتى لا يكتمل النصاب القانوني لعقدها. البرلمان يدرك ذلك، وقد أحال الامر الى اللجنة التشريعية لتعديل لوائح التصويت بحيت يمكن تمرير القانون في حالة التصويت عليه بالأغلبية المطلقة للحضور، وهذه سابقة يستحق الشكر عليها. لذلك يتوقع ان يتم التعديل الدستوري للفقرة 2 من المادة 30 من الإعلان الدستوري المؤقت. القضية الثانية التي ربما ستعمل على عدم تمرير مشروع الدستور ان تم الاستفتاء عليه هو تمكن أصحاب بعض التوجهات من اقناع قاعدته الشعبية في احد الدوائر الثالثة بالتصويت بـ”لا” للدستور، مما يعني تعطيله، فتعطيل دائرة واحدة يعني تعطيل مشروع الدستور.
الخلاصة، مساعي البرلمان، وفي كل الحالات، ستعمل على ان يميل المسار السياسي في ليبيا لصالح التوجه الفرنسي، الذي يسعى الى اقامت انتخابات رئاسية وبرلمانية مع نهاية السنة. فالظروف التي تحيط بعقد جلسات البرلمان لن تسمح بتمرير قانون الاستفتاء،وإن مر فلن يكتب له الفوز بـ”نعم”، وبالتالي ستعطل اخراج الدستور، والنتيجة ربما سيسعى البرلمان الى تفعيل قراره رقم 5 لعام 2014 الذي تشير مادته الأولى الى انتخاب رئيس مؤقت للدولة بطريق الاقتراع السري المباشر وبالاغلبية المطلقة للمقترعين حسب ما اشارت اليه المادة 43 من مقررات لجنة فبراير.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً