لقد تناولت مقارباتي في السابق مفهوم كيان الشرق الأوسط من زوايا عدّة وكانت قد اعتمدت على الواقع الليبي ما بعد الانتفاضة كأداة اتخذتها ووظّفتها في عديد من المواضع لدعم ما تحتاجه من براهين حرصت أن تكون قريبة وتلامس الواقع، ولكي لا تقتصر وتنحصر استشهاداتها لدعم ما جاء فيها على الواقع الليبي وفقط، ستحاول في هذه المرّة، الابتعاد عن واقعها الليبي إلى أحد مفردات جواره الإقليمي بفضاء كيان الشرق الأوسط لتعتمدها في الآتي من السطور، متكأ وشاهد لها في ما ستقوله، عن حيوية مفاعيل هذا الكيان، وأثر ارتدادات على فضاء جنوب وشرق المتوسط.
فمثلا، السودان وما يحدث فيه من تفاعلات دامية، يَخُطها ويكتبها في شوارع وميادين مُدِنه، وأزقة قُراه وساحاتها، ولايزال رصاص البنادق والرشاشات ودانات المدافع والدبابات، وأحياناً يصل تدافعها إلى استخدام صواريخ الراجمات والطيارات، أحدث – في تقديري – من الصعب السيطرة عليها، وستعجز جميع الإرادات التي تحاول احتوائها وتطويعها نحو آليات تعمل وتجتهد لتنتهي إلى تحقيق قدر مقبول من مطالب التظاهرات الشعبية الكثيفة، التي غطت وغص بها الشارع السوداني على امتداد الشهور التي سبقت انعقاد جلسات الحوار المتنوعة، والتي جاءت نتيجة وثمرة لتلك التظاهرات الشعبية العارمة.
وعجز هذه المقاربات إن لم نقل فشلها المتكرر، حدث وسيحدث وفي تقديري سيستمر، نتيجة اتكائها على البعد السياسي العسكري الأمني وفقط، وهذا سينتهي بها في أحسن أحواله، إلى إعادة إنتاج سودان ما قبل انتفاضة شارعه، أعادت دولة عاجزة عن إدارة شأنها العام، على نحو يعود بالنفع على مجمل السودان وساكنة السودان، وسيضل السودان كما في السابق، دولة عاجزة عن أن يأمن جارها بوائقها الأمنية الناعمة وسواها.
وبقول آخر، لا تستطيع المقاربات السياسية العسكرية الأمنية للحالة السودانية، من خلال الثلاثية والرباعية وكل الهياكل المكملة لهما، سوى إعادة إنتاج السودان كمفردة أساسية في كيان الشرق الأوسط، ولبنة هامة في بنيانه العتيد، وهذا سيُبعده عن إمكانية توفير الاحتياجات الأساسية ومتطلبات حاضنته الجغرافية الديمغرافية الثقافية الطبيعية، بالقدر الكافي الذي سيستفز ويدفع بشارعه وميادينه للاستنفار والتظاهر، احتجاجا على تردّي الحياة في متطلّباتها الإنسانية بوجهيها المادي والمعنوي.
كنت أحاول القول، إن المقاربات السياسية العسكرية الأمنية للحالة السودانية، من زاوية شرق أوسطية وفقط، ستنتهي إلى تجاهل وتهميش فج ومُستفز، للحاجات الأساسية لحاضنة السودان الجغرافية الديمغرافية الثقافية، أعني حاجات السودان لمضمونه المحلّي الوطني في وعاء جغرافي ديمغرافي ثقافي لساكنة السودان، حاجات السودان لمضمونه الإقليمي والدولي ككيان اجتماعي ثقافي سياسي اقتصادي في فضاء جغرافيات حوض النيل، وكمفردة جغرافية بالقرن والغرب الإفريقي، حاجات السودان لكل ما ذكرناه فيما فات، كي يكون ذا سلوك مسئول تجاه مواطنيه بوعائه المحلي الوطني وذا سلوك مسئول داخل فضاءه الإقليمي الدولي.
فالاتكاء على البُعد السياسي العسكري الأمني من منظور شرق أوسطي في تجاهل وتهميش تام للواقع الجغرافي الديمغرافي الثقافي السوداني، هو ليس غير محاولة لإعادة إنتاج سودان العقود والمراحل الماضية، بجميع بوائقه التي أرهقت ساكنته ومحيطه الجغرافي القريب والدولي البعيد، ومحاولة لدفع كيانه – عن قصد أو غير قصد – نحو التشظي، وتراجع وانسحاب نتائج تشظّيه، نحو حواضنها البدائية الأولى للاحتماء بها، وفي ذلك خطر كبير على الأمن والاستقرار المحلي والإقليمي، بفضاء حوض النيل، بجغرافية القرن والغرب الأفريقي والبحر الأحمر.
من كل ما سبق نستخلص، بأن المُدخل المنتج لاحتواء الحالة السودانية، سوف لا يتم إلا بإدماج مضامين الواقع الجغرافي الديمغرافي الثقافي السوداني، داخل جلسات الحوار وبحضور فعال ومؤثر، له القدرة على تحميل مضامينه على كل ما تأتي به جلسات الحوار فى مخرجاتها النهائية، إذا كانت الغايات النهائية للمقاربات التي تتناول بالتداول والنقاش الحالة السودانية، تسعى وتتوخى وبحق في مجمل خطواتها إرساء الأمن والاستقرار بداخل الوعاء الجغرافي السوداني وبمحيطه الجغرافي الإقليمي القريب والدولي البعيد.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً